فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

قال في ملاك التأويل:
قوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [المؤمنون: 41]، ثم قال تعالى عند ذكر القرون: {فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 44]، فقال في الأولى: {فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [المؤمنون: 41]، ثم قال في الثانية: {فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 44]، للسائل أن يسأل عن الفرق؟
والجواب، أن الآية الأولى في أمة معينة، قد بين حالها وقبيح مرتكبها، وتحصل العلم بكفرهم وظلمهم أنفسهم، فقيل: {فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [المؤمنون: 41]، ووقوع اسم الظلم عليهم على أتم ما يقع عليه، من عدم الإيمان، وارتكاب العظائم من كفر وتكذيب وقبيح الرد، على ما تفصل في الآي قبلها، وأما قوله بعد: {فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 44] فورد عقب إجمال إخبار بطوائف وأمم اجتمعوا في التكذيب ورد ما جائتهم به رسلهم، فأعقب بوصف إذا وجد كان ما سواه من قول وعمل مناسبًا له وبحسبه وهو عدم الإيمان، ولم يكن وصفهم بالظلم ليعطي ذلك لوقوعه على الظلم بالكفر وعلى الظلم بمعصية والمعصية ليست كفرًا، ألا ترى أن بعض من يقع عليه اسم الظلم ويوسم به قد يكون مبقى عليه اسم الإيمان، بل لم يقترن به ما يقتضي كفره، أما من اتصف بعدم الإيمان فلا فلاح معه، فلما اجتمع هؤلاء الظائف في عدم الإيمان وسموا به، ولما كان عدم الإيمان حاصلًا لمن تقدم بما ذكر من تكذيبهم وأخذهم بالصيحة وجعلهم غثاء أعقب وصفهم بما ينبئ بالزيادة على كفرهم، إذ الكفر حاصل.
فإن قلت: فقد تقدم في وصف هؤلاء الأمم: {كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ} [المؤمنون: 44]، وحصل من ذلك عدم إيمانهم فلم كرر؟ ولِمَ لَم يوصفوا بالظلم؟ قلت: لم يقع في ذكر هؤلاء تفصيل مرتكباتهم كما ورد فيمن تقدمهم، فناسب إجمال الواقع من التكذيب إجال الوصف بعدم الإيمان، وجاء كل من ذلك على ما يجب، والله أعلم. اهـ.

.تفسير الآيات (42- 44):

قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كانت عادة المكذبين أن يقولوا تكذيبًا: هذا تعريض لنا بالهلاك، فصرِّح ولا تدع جهدًا في إحلاله بنا والتعجيل به إلينا، فإنا لا ندع ما نحن عليه لشيء، وكان العرب أيضًا قد ادعوا أن العادة بموتهم وإنشاء من بعدهم شيئًا فشيئًا لا تنخرم، قال تعالى رادعًا لهم: {ثم أنشأنا} أي بعظمتنا التي لا يضرها تقديم ولا تأخير، وأثبت الجار لما تقدم فقال: {من بعدهم} أي من بعد من قدمنا ذكره من نوح والقرن الذي بعده {قرونًا آخرين} ثم أخبر بأنه لم يعجل على أحد منهم قبل الأجل الذي حده له بقوله: {ما تسبق} ولعله عبر بالمضارع إشارة إلى أنه ما كان شيء من ذلك ولا يكون، وأشار إلى الاستغراق بقوله: {من أمة أجلها} أي الذي قدرناه لهلاكها {وما يستأخرون} عنه، وكلهم أسفرت عاقبته عن خيبة المكذبين وإفلاح المصدقين، وجعلهم بعدهم الوارثين، وعكس هذا الترتيب في غيرها من الآيات فقدم الاستئخار لنه فرض هناك مجيء الأجل فلا يكون حينئذ نظر إلا إلى التأخير.
ولما كان قد أملى لكل قوم حتى طال عليهم الزمن، فلما لم يهدهم عقولهم لما نصب لهم من الأدلة، وأسبغ عليهم من النعم، وأحل بالمكذبين قبلهم من النقم، أرسل فيهم رسولًا، دل على ذلك بأداة التراخي فقال: {ثم أرسلنا} أي بعد إنشاء كل قرن منهم وطول إمهالنا له، ومن هنا يعلم أن بين كل رسولين فترة، وأضاف الرسل إليه لأنه في مقام العظمة وزيادة في التسلية فقال: {رسلنا تترا} أي واحدًا بعد واحد؛ قال الرازي: من وتر القوس لاتصاله.
وقال البغوي: واترت الخبر: اتبعت بعضه بعضًا وبين الخبرين هنيهة.
وقال الأصبهاني: والأصل: وترى، فقلبت الواو تاء كما قلبوها في التقوى.
فجاء كل رسول إلى أمته قائلًا: اعبدوا الله ما لكم من إله غيره.
ولما كان كأنه قيل: فكان ماذا؟ قيل: {كلما جاء أمة} ولما كان في بيان التكذيب، اضاف الرسول إليهم، ذمًا لهم لأن يخصوا بالكرامة فيأبوها ولقصد التسلية أيضًا فقال: {رسولها} أي بما أمرناه به من التوحيد.
ولما كان الأكثر من كل أمة مكذبًا، أسند الفعل إلى الكل فقال: {كذبوه} أي كما فعل هؤلاء بك لما أمرتهم بذلك {فأتبعنا} القرون بسبب تكذيبهم {بعضهم بعضًا} في الإهلاك، فكنا نهلك الأمة كلها في آن واحد، بعضهم بالصيحة، وبعضهم بالرجفة، وبعضهم بالخسف، وبعضهم بغير ذلك، فدل أخذنا لهم على غير العادة- من إهلاكنا لهم جميعًا وإنجاء الرسل ومن صدقهم والمخالفة بينهم في نوع العذاب- أنا نحن الفاعلون بهم ذلك باختيارنا لا الدهر، وأنا ما فعلنا ذلك إلا بسبب التكذيب.
ولما كانوا قد ذهبوا لم يبق عند الناس منهم إلا أخبارهم، جعلوا إياها، فقال: {وجعلناهم أحاديث} أي أخبارًا يسمر بها ويتعجب منها ليكونوا عظة للمستبصرين فيعلموا أنه لا يفلح الكافرون ولا يخيب المؤمنون، وما أحسن قول القائل:
ولا شيء يدوم فكن حديثًا ** جميل الذكر فالدنيا حديث

ولما تسبب عن تكذيبهم هلاكهم المقتضي لبعدهم فقال: {فبعدًا لقوم} أي أقوياء على ما يطلب منهم {لا يؤمنون} أي لا يتجدد منهم إيمان وإن جرت عليهم الفصول الأربعة، لأنه لا مزاج لهم معتدل. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42)}.
القصة الثالثة:
اعلم أنه سبحانه يقص القصص في القرآن تارة على سبيل التفصيل كما تقدم وأخرى على سبيل الإجمال كههنا، وقيل المراد قصة لوط وشعيب وأيوب ويوسف عليهم السلام.
فأما قوله: {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُونًا ءَاخَرِينَ} فالمعنى أنه ما أخلى الديار من مكلفين أنشأهم وبلغهم حد التكليف حتى قاموا مقام من كان قبلهم في عمارة الدنيا.
أما قوله: {مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأخِرُونَ} فيحتمل في هذا الأجل أن يكون المراد آجال حياتها وتكليفها، ويحتمل آجال موتها وهلاكها، وإن كان الأظهر في الأجل إذا أطلق أن يراد به وقت الموت، فبين أن كل أمة لها آجال مكتوبة في الحياة والموت، لا يتقدم ولا يتأخر، منبهًا بذلك على أنه عالم بالأشياء قبل كونها، فلا توجد إلا على وفق العلم، ونظيره قوله تعالى: {إِنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَاء لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [نوح: 4].
وهاهنا مسألتان:
المسألة الأولى:
قال أصحابنا: هذه الآية تدل على أن المقتول ميت بأجله إذ لو قتل قبل أجله لكان قد تقدم الأجل أو تأخر، وذلك ينافيه هذا النص.
المسألة الثانية:
قال الكعبي: المراد من قوله: {مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ} أي لا يتقدمون الوقت المؤقت لعذابهم إن لم يؤمنوا ولا يتأخرون عنه، ولا يستأصلهم إلا إذا علم منهم أنهم لا يزدادون إلا عنادًا وأنهم لا يلدون مؤمنًا، وأنه لا نفع في بقائهم لغيرهم، ولا ضرر على أحد في هلاكهم، وهو كقول نوح عليه السلام: {إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 27].
أما قوله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تترا} فالمعنى أنه كما أنشأنا بعضهم بعد بعض أرسل إليهم الرسل على هذا الحد قرأ ابن كثير تترًا منونة والباقون بغير تنوين وهو اختيار أكثر أهل اللغة لأنها فعلى من المواترة وهي المتابعة وفعلى لا ينون كالدعوى والتقوى والتاء بدل من الواو فإنه مأخوذ من الوتر وهو الفرد،
قال الواحدي تترى على القراءتين مصدر أو اسم أقيم مقام الحال لأن المعنى متواترة.
أما قوله تعالى: {كُلَّمَا جَاءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ} [المؤمنون: 44] يعني أنهم سلكوا في تكذيب أنبيائهم مسلك من تقدم ذكره ممن أهلكه الله بالغرق والصيحة فلذلك قال: {فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا} أي بالهلاك.
وقوله: {وجعلناهم أَحَادِيثَ} يمكن أن يكون المراد جمع الحديث ومنه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والمعنى أنه سبحانه بلغ في إهلاكهم مبلغًا صاروا معه أحاديث فلا يرى منهم عين ولا أثر ولم يبق منهم إلا الحديث الذي يذكر ويعتبر به.
ويمكن أيضًا أن يكون جمع أحدوثة مثل الأضحوكة والأعجوبة، وهي ما يتحدث به الناس تلهيًا وتعجبًا.
ثم قال: {فَبُعْدًا لّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} على وجه الدعاء والذم والتوبيخ، ودل بذلك على أنهم كما أهلكوا عاجلًا فهلاكهم بالتعذيب آجلًا على التأبيد مترقب وذلك وعيد شديد. اهـ.